فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والقلوب محال الإدراك، وهي العقول، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] في سورة البقرة.
والزيغ: الميل والانحراف عن المقصود: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17] ويقال: زاغت الشمس. فالزيغ أخص من الميل؛ لأنه ميل عن الصواب والمقصود.
والاتباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه، يحصونه. شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعه.
وقد ذكر علة الاتباع، وهو طلب الفتنة، وطلب أن يؤولوه، وليس طلب تأويله في ذاته بمذمة، بدليل قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} كما سنبينه وإنما محل الذم أنهم يطلبون تأويلا ليسوا أهلا له فيؤولونه بما يوافق أهواءهم. وهذا ديدن الملاحدة وأهل الأهواء: الذين يتعمدون حمل الناس على متابعتهم تكثيرا لسوادهم.
ولما وصف أصحاب هذا المقصد بالزيغ في قلوبهم، علمنا أنه ذمهم بذلك لهذا المقصد، ولاشك أن كل اشتغال بالمتشابه إذا كان مفضيا إلى هذا المقصد يناله شيء من هذا الذم. فالذين اتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله المنافقون، والزنادقة، والمشركون مثال تأويل المشركين: قصة العاصي بن وائل من المشركين إذ جاءه خباب بن الأرت من المسلمين يتقاضاه أجرا، فقال العاصي متهكما به وإني لمبعوث بعد الموت أي حسب اعتقادكم فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد فالعاصي توهم، أو أراد الإيهام، أن البعث بعد الموت رجوع إلى الدنيا، أو أراد أن يوهم دهماء المشركين ذلك ليكون أدعى إلى تكذيب الخبر بالبعث، بمشاهدة عدم رجوع أحد من الأموات، ولذلك كانوا يقولون {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان: 36].
ومثال تأويل الزنادقة: ما حكاه محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي قال: كنت بمكة حين كان الجنابي زعيم القرامطة بمكة، وهم يقتلون الحجاج، ويقولون: أليس قال لكم محمد المكي «ومن دخله كان آمنا فأي أمن هنا؟» قال: فقلت له: هذا خرج في صورة الخبر، والمراد به الأمر أي ومن دخله فأمنوه، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228].
والذين شابهوهم في ذلك كل قوم يجعلون البحث في المتشابه ديدنهم، ويفضون بذلك إلى خلافات وتعصبات. وكل من يتأول المتشابه على هواه، بغير دليل على تأويله مستند إلى دليل أو استعمال عربي.
وقد فهم أن المراد: التأويل بحسب الهوى، أو التأويل الملقي في الفتنة، بقرينة قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية، كما فهم من قوله: {فَيَتَّبِعُونَ} أنهم يهتمون بذلك، ويستهترون به، وهذا ملاك التفرقة بين حال من يتبع المتشابه للإيقاع في الشك والإلحاد، وبين حال من يفسر المتشابه ويؤوله إذا دعاه داع إلى ذلك، وفي البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي؛ قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} قال: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} وقال: {ولا يكتمون الله حديثا} قال: {قالوا والله ربنا ما كنا مشركين}. قال ابن عباس فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. فأما قوله: {وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون: تعالوا نقل: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواهم فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك لا يكتمون الله حديثا.
وأخرج البخاري، عن عائشة: قالت تلا رسول الله هذه الآية إلى قوله: {أولو الألباب} قالت قال رسول الله: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سماهم الله فاحذروهم».
ويقصد من قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} التعريض بنصارى نجران؛ إذ ألزموا المسلمين بأن القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو خلقنا وأمرنا وقضينا، وزعموا أن ذلك الضمير له وعيسى ومريم ولاشك أن هذا إن صح عنهم هو تمويه؛ إذ من المعروف أن في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا}:

.قال الفخر:

الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء.
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، فإذا رأى شيئًا متشابهًا، ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى، علم حينئذ قطعًا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره، وأن ذلك المراد حق، ولا يصير كون ظاهره مردودًا شبهة في الطعن في صحة القرآن.
ثم حكي عنهم أيضا أنهم يقولون {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} والمعنى: أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا، وفيه سؤالان:
السؤال الأول: لو قال: كل من ربنا كان صحيحًا، فما الفائدة في لفظ {عِندَ}؟.
الجواب؛ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد، فذكر كلمة {عِندَ} لمزيد التأكيد.
السؤال الثاني: لم جاز حذف المضاف إليه من {كُلٌّ}؟.
الجواب: لأن دلالة المضاف عليه قوية، فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} يقال: إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أخطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: بلغنا أنه نزل عليك {الم}، فإن كنت صادقًا في مقالتك فإن ملك أُمّتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألِف في حساب الجّمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}.
والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك: تأويل هذه الكلمة على كذا.
ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه.
واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار.
وأوّلته تأويلًا أي صيرته.
وقد حدّه بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه.
فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1] أي لا شك.
وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال: فسرت الشيء (مخففًا) أفْسِره (بالكسر) فَسْرًا.
والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين.
أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك.
وكقول ابن عباس في الجد أبا؛ لأنه تأوّل قول الله عز وجل: {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]. اهـ.

.قال ابن كثير:

ومن العلماء من فصل في هذا المقام، فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان، أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] وقوله (9) {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ و{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والتعبير والبيان عن الشيء كقوله تعالى: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي: بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالا منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان} الآية [الحشر: 8- 10]، وكقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] أي: وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.
وقوله إخبارًا عنهم أنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} أي: بالمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي: الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد لقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألباب} أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحِمْصَيّ، حدثنا نُعَيْم بن حماد، حدثنا فياض الرَّقِّيّ، حدّثنا عبد الله بن يزيد- وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنسًا، وأبا أمامة، وأبا الدرداء، رضي الله عنهم، قال: حدثنا أبو الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم، فقال: «من بَرَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن أَعَفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فَكِلُوهُ إلى عَالِمِه». اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الألباب}.
جملة حال أي وهم لا قبل لهم بتأويله؛ إذ ليس تأويله لأمثالهم، كما قيل في المثل ليس بعشك فادرجي.
ومن هنا أمسك السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم وجاء في زمن عمر رضي الله عنه رجل إلى المدينة من البصرة، يقال له صبيغ بن شريك أو ابن عسل التميمي فجعل يسأل الناس عن متشابه القرآن، وعن أشياء فأحضره عمر، وضربه ضربا موجعا، وكرر ذلك أياما، فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد ذهب ما كنت أجد في رأسي ثم أرجعه إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته. ومن السلف من تأول عند عروض الشبهة لبعض الناس، كما فعل ابن عباس فيما ذكرناه آنفا.
قال ابن العربي في العواصم من القواصم: من الكائدين للإسلام الباطنية والظاهرية.
قلت: أما الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها، وتأولوه بحسب أهوائهم، وأما الظاهريون فقد أكثروا في متشابهه، واعتقدوا سبب التشابه واقعا، فالأولون دخلوا في قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، والأخيرون خردوا من قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أو وما يعلم تأويله إلا الله، فخالفوا الخلف والسلف.
قال ابن العربي في العواصم وأصل الظاهريين الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله يعني أنهم أخذوا بظاهر قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ولم يتأولوه بما هو المراد من الحكم.
والمراد الراسخون في العلم: الذين تمكنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه. والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا، وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت كالحقيقة. فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه.
ولذا فقوله: {وَالرَّاسِخُونَ} معطوف على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريف عظيم: كقوله: {شَهِدَ الله أنه لا إله إلا هو وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18] وإلى هذا التفسير مال ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن سليمان، والقاسم بن محمد، والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي، وابن عطية، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها، ويؤيد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة، ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأن لهم مزية في فهم المتشابه؛ لأن المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، ففي أي شيء رسوخهم. وحكى إمام الحرمين، عن ابن عباس: أنه قال في هاته الآية أنا ممن يعلم تأويله.
وقيل: الوقف على قوله: {إِلَّا الله} وإن جملة {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مستأنفة، وهذا مروي عن جمهور السلف، وهو قول ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية، وقاله عروة بن الزبير، والكسائي، والأخفش والفراء، والحنفية، وإليه مال فخر الدين.
ويؤيد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم؛ فأنه دليل بين على أن الحكم الذي أثبت لهذا الفريق، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضلات، وهو تأويل المتشابه، على أن أل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفا على اسم الجلالة فيدخلون في أنهم يعلمون تأويله.
ولو كان الراسخون مبتدأ وجملة يقولون آمنا به خبرا، لكان حاصل هذا الخبر مما يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة. قال ابن عطية تسميتهم راسخين تقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه الجميع وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام بقريحة معدة وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعدو أن يكون ترجيحا لأحد التفسيرين، وليس إبطالا لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله. اهـ.

.قال الألوسي:

وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولًا فأولًا، وقد قالوا: إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية. اهـ.